مقاربات المشروع

9- خصوصية المقاربة الفكرية لمشروع إحياء نظام تربوي أصيل

بعد سيرورة طويلة من الاجتماعات التشاورية والأبحاث العلمية والمخابر البحثية والورش العملية واللقاءات التحاورية والجلسات التفاكرية والمناقشات المستفيضة والمراجعات المعمقة وما نتج عن كل ذلك من وثائق وتقارير وموجهات وضوابط، فقد أثمرت ــــ بتوفيق من الله تعالى ــــ هذه الجهود المضنية التأسيسية والتنظيمية والتوجيهية والتشاورية والبحثية والنقاشية التي بذلت في المشروع منذ انطلاقته إرساء مقاربة فكرية لهذا المشروع لها خصوصيتها وفرادتها، وذلك ما يسلط عليه الضوء في الفقرات التالية:

  • تنطلق مقاربة المشروع من كون المعضلة التربوية الراهنة في العالم العربي والتي يأتي الاغتراب الحضاري على رأس أسبابها الأساسية ــــ وفقا لمنظور المشروع في تشخيص هذه المعضلة ــــ تتطلب معالجة مركبة ترتكز أساسا على رأب التصدعات التي تعاني منها الذات الحضارية والثقافية للأمة سعيا وراء خلق نوع من الانسجام والوحدة للذات تصبح فيه الأصالة جامعة بين التجذر الحضاري والتجدد العصري؛ فحينها يلتحم القديم بالجديد والتنظير بالتطبيق والعلم بالعمل، وتندمج المؤسسة العلمية في محيطها البيئي الإنساني الحضاري، كل ذلك ضمن الثوابت التي تتحدد بها موجهات الذات في تعاملها مع مختلف مكونات هذا المحيط لتعطيها على تعددها واختلافها معنى حضاريا موحدا.
  • ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا استطاعت الخصوصية الثقافية أن تستوعب التجارب الحضارية المختلفة، وأن ترتاد آفاق تطوراتها المتنوعة بغية التفاعل الخلاق بين الذاتية الحضارية والعطاء الإنساني؛ تفاعلا يقتضي نهوض الذات بمقوماتها الثقافية والعقدية والقيمية واللغوية والتاريخية؛ إذ تغدو تلك المقومات منطلقا للتحرر الفكري ومحفزا للوعي الجماعي، كما يغدو وعي الماضي فاعلية مبدعة ومجددة للواقع؛ فالذات في تأصلها الروحي والثقافي هي جذر الإبداع، والإبداع هو قوام حياة الذات.
  • ومن هنا، تعتمد مقاربة المشروع على أولوية نظام تربوي يتمثل ــــ من ناحية ــــ الخصائص الحضارية والثقافية للتراث التربوي، ويعي كل الوعي ــــ من ناحية أخرى ــــ ما أنجزه الفكر الإنساني المعاصر من تقدم في المجال التربوي. وذلك لأن الجمع بين ذلك التمثل وهذا الوعي كفيل بأن يكون مقوما جوهريا لاستعادة كفاءة النظام التعليمي، ومدخلا ضروريا للإبداع الفردي والفاعلية الجماعية. وبهذا تشكل أولوية هذا النظام التربوي الأساس النظري للمشروع الذي يجيب عن معضلة المؤسسة التعليمية العربية محددا موقفا علميا مركـّبا وتفاعليا.
  • يضع النظام التربوي للمشروع ــــ بفضل مناهجه ومضامينه الخاصة وطرق تسييره وأساليب متابعاته المتميزة ومسالك تكوين المعلم والمتعلم الذي يتفرد بها ــــ في مطلع اهتماماته معالجة الاغتراب الحضاري. لذلك؛ يحرص هذا النظام على تمكين المنضوين فيه من تحقيق الوعي بإمكانات ذواتهم ومكنوناتها ومن خلال أدوات حضارية تكون من عملهم وصنعهم، باعتبار أن فاعليتهم المبدعة تتحقق عند تمكنهم من الفضاء الحضاري الذي ينتمون إليه. أي أن المشروع يربط عضويا بين مدخلاته الكبرى وغايات التكوين لديه وبين تحقيق شرط الإبداع الذي يستدعي أولا الانطلاق من الذات.
  • وهكذا يقوم التصور النظري الذي يرتكز عليه المشروع على قاعدتين اثنتين:
    • القاعدة الأولى: قاعدة الذات المتأصلة. والذات المتأصلة هي أساس الفاعلية المبدعة القادرة على تجاوز الاغتراب الحضاري الذي يعيق تحقيق المتعلم لذاته بسب اختيارات وأهداف وأدوات لم يسهم في بنائها. ذلك أن هذه القاعدة تستلزم العمل على تحقيق تكوين نظري متميز بعلميته وموضوعيته، تجعل المتعلم قادرا على اكتشاف فضائه الحضاري الخاص من أجل إعادة بناء ذاته. ويقتضي هذا التكوين وضع تنظيمات تربوية وأساليب تعليمية مبتكرة تتمثل دلالات الأصالة التربوية ــــ من جهة ــــ وتستجيب لحاجيات وخصائص المجتمعات العربية التي تطبق فيها ــــ من جهة أخرى ــــ لما في ذلك من إعادة بناء ذات المتعلم بأبعادها العقدية والفكرية والنفسية والخلقية والعملية..
    • القاعدة الثانية: قاعدة الذات المتواصلة. ذلك أن التواصل المعرفي الذي يتم بفضله التبادل الفكري والعلمي بين مختلف المجتمعات هو الذي ظل طوال القرون عاملا حاسما في البناء التراكمي للحضارة الإنسانية، رابطا بين أصقاع العالم؛ وبالأخص بين الشرق والغرب. فمسيرة العلم والحضارة بين بني الإنسان قاسم مشترك تتفاوت استفادتهم منه حسب درجة وعيهم بموقعهم الحضاري والتاريخي. لهذا؛ فالمشروع يؤكد على استحالة انسحاب أي مجتمع ــــ مهما كانت ثقافته ومعتقداته ــــ من المسيرة الحضارية الشاملة، إن هو أراد أن يحتفظ لنفسه بدرجة من التحضر تقيه التخلف والاستتباع. وعلى هذا، فإن القاعدة الثانية هذه تستلزم انخراطا واعيا للفعل التربوي في مسيرة الحضارة الإنسانية بمختلف إنجازاتها الفكرية والعلمية والتقنية والفنية وبمختلف تنظيماتها الاجتماعية والقانونية والسياسية والاقتصادية.

والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن مقتضى وعي الفعل التربوي الذي تشدد عليه القاعدة الثانية يرتبط بالقاعدة الأولى ارتباطا عضويا. ذلك أن الذات المتأصلة والمتمثلة لتراثها الثقافي والقيمي والمعرفي الخاص تكون أقدر على الإضافة والتجديد إن هي واكبت المسيرة العلمية الحضارية مواكبة نقدية وإبداعية.

  • وعلى أساس التفاعل بين هاتين القاعدتين اللتين ينبني عليهما التصور النظري للمشروع، تتبين الحاجة الملحة إلى وعي نقدي مزدوج. فبفضل هذا الوعي المركب يتحول تأصيل الذات بمكوناتها الثقافية والتربوية إلى رؤية دافعة إلى الإبداع؛ حيث إن هذه الذات تصبح منفتحة على العصر ومشاغله التربوية ومكاسبه المعرفية. وعلى العكس؛ فإن ما يتوفر عليه العصر من مكاسب إنسانية بخصوص المجال التربوي خاصة، وبما يقدمه من طاقة إغناء لشخصية المتعلم والمعلم لا يحجب في الوقت ذاته حاجة العصر إلى التطوير المستفيد من فرادة التراث وخصوصياته.
  • يرسم هذا الوعي المستند إلى إدراك مركب، إدراك للذات بما تشتمل عليه من عناصر الأصالة ومن مكونات حيّة وإدراك للآخر في تعدد تعابيره وتنوع خصائصه ومشاغله. يرسم توجها استراتيجيا للمشروع يحقق تعاطيا مع حركية التمدن التاريخي خاصة في الفعل التربوي وفق نسق فكري له فاعلية معاصرة تمكـّن المتعلم والمؤسسة التربوية والمجتمع من الاستقلال والانفتاح والتميز.
  • وبهذا يضحى نظام التربية الأصيلة في المشروع مجالا حيويا يبني الذوات الفردية ضمن وجهة مستقبلية وفي أفق جماعي، بحيث يكون هذا النظام عبارة عن حركة بناء مستمرة تلتحم فيها المكونات الفردية والكيانات المجتمعية من أجل تنشئة إنسانية متناسقة ومفتوحة على المستقبل.
  • ويسعى المشروع إلى تحقيق هذا التفاعل الإحيائي الإبداعي ضمن نسق موصول بخبرة الماضي التربوية ومعرفة الحاضر والتهيؤ للمستقبل بما فيه من حركة متسارعة ومن تطور تقني هائل، وذلك من خلال المؤسسات المتنوعة التي ينشئها من أجل بناء الإنسان روحيا ونفسيا وفكريا، حتى يصبح قادرا على التجاوز الدائم إلى ما هو أفضل، منطلقا من منظومة أساسية من المفاهيم المفتاحية.
زر الذهاب إلى الأعلى